بماذا تفوقت كانبرا على أكبر مدينتين في أستراليا وحجزت لنفسها هذا الشرف الرفيع رغم صغر مساحتها التي لا تتجاوز 814 كيلومتراً مربعاً وانزوائها بعيداً عن البحر عند سفوح جبال الألب الأسترالية؟
الحكاية بدأت في 1 كانون الثاني/يناير 1901، اليوم الذي اتحدت فيه مستعمرات نيو ساوث ويلز وفيكتوريا وجنوب أستراليا وكوينزلاند وغرب أستراليا وتسمانيا لتشكل كومنولث أستراليا الجديدة.
لكن قبل الاتحاد وبالتأكيد في السنوات التي تلته، كانت هناك خلافات دائمة حول المكان الذي يجب أن يكون مقر الحكومة الفدرالية وعاصمة الدولة الأسترالية الوليدة.
كان الدستور الأسترالي وقتها ينص على أن البرلمان يجب أن يختار موقعاً على بُعد 160 كيلومتراً على الأقل من سيدني وأن مقره سيكون في ملبورن إلى حين الانتهاء من بناء مبنى البرلمان الجديد في العاصمة الجديدة.
في تلك الأيام أعلن كينغ أومالي، الذي كان عضواً في أول برلمان فيدرالي وأصبح فيما بعد وزيراً للشؤون الداخلية، عن اعتقاده بأن "المناخ البارد هو الذي ينتج أعظم العباقرة".
لذلك كان أومالي من أكثر المدافعين عن اختيار منطقة Snowy Mountains الجبلية في جنوب نيو ساوث ويلز كعاصمة للبلاد.
استمر البحث عن مكان مناسب للعاصمة في أكثر من 60 موقعاً في نيو ساوث ويلز تتميز بمناخها المعتدل ونقاء مياهها ووفرة الأحجار والأخشاب فيها لأغراض البناء.
في هذه الأثناء بدأ الفيكتوريون رحلة البحث الخاصة بهم. في شتاء عام 1902، غادر أعضاء مجلسي البرلمان ملبورن لتفقد مجموعة من المواقع المرشحة.
ورغم برودة الطقس في الجبال، انجذب السياسيون بشدة إلى مواقع في جنوب شرق الولاية. وعندما أجرى البرلمان تصويته الأول، اقترح مجلس الشيوخ بلدة بومبالا، فيما وقع اختيار مجلس النواب على بلدة توموت. وبعد ستة أشهر، وافق كلا المجلسين على دالغيتي، وهي بلدة صغيرة شمال بومبالا.
لكن حكومة نيو ساوث ويلز رفضت هذا الاقتراح واستمرت بالضغط لاختيار موقع أقرب إلى سيدني.
وفجأة ظهر إلى العلن موقع "جديد" في "ياس كانبرا" بدا وكأنه حل وسط مقبول للطرفين.
كانت هذه المنطقة النائية تقع على بُعد 160 كم من سيدني وتتميز بهوائها النقي ومياهها الوفيرة ومناخها المنعش. لذلك غيّر البرلمان الفيدرالي رأيه لصالح كانبرا، فيما وافقت نيو ساوث ويلز على تقديم أرض على الساحل ليكون للعاصمة الفيدرالية ميناؤها البحري الخاص في جيرفيس باي.
في تشرين الأول/أكتوبر 1908، أقر البرلمان مشروع القانون المقدم من الحكومة، مما أكد أن ياس كانبرا ستصبح عاصمة البلاد.
كينغ أومالي يضع أول وتد معلناً بدء مشروع بناء مدينة كانبرا في 20 شباط/فبرير 1913 Source: Supplied
ونظمت الحكومة الأسترالية مسابقة دولية لتصميم العاصمة فاز بها المهندس المعماري الأميركي من شيكاغو والتر بيرلي غريفين الذي ابتكر مخططاً رائعاً للمدينة. وقيل يومها إن ذلك التصميم سيخلق "المدينة العصرية الوحيدة في العالم".
في عام 1913، لم تكن منطقة كانبرا أكثر من مجرد محطة نائية للأغنام على ضفاف نهر مولونجلو. وفي تلك السنة أقيم احتفال كبير لإطلاق الاسم الرسمي للمدينة.
كان اسم "كانبرا" هو الخيار المفضل والمنطقي. وهو مشتق من كلمة يستخدمها السكان الأصليون تعني "مكان الاجتماع" وكان الاسم شائعاً في المنطقة لأكثر من ثلاثة أرباع القرن.
مع ذلك، دعت الحكومة الشعب الأسترالي لاقتراح اسم للعاصمة الجديدة.
وكانت تلك مناسبة للأستراليين للتعبير عن حس الفكاهة الذي يميزهم. وردت للحكومة مجموعة من الأسماء الغريبة، وتصدرت القائمة اقتراحات مثل "Cookaburra" و"Wheatwoolgold" و"Kangaremu"، وصولاً إلى أسماء فضفاضة مثل "Sydmelperadbrisho" و"Meladneyperbane". ولدوافع سياسية تم طرح أسماء أخرى مثل "Swindleville" و"Gonebroke" و"Caucus City".
والتر بيرلي غريفن المهندس الذي صمّم مدينة كانبرا Source: National Library of Australia
لكن الكلمة الأخيرة كانت للسيدة غيرترود دينمان، زوجة الحاكم العام البريطاني.
صباح يوم الأربعاء 12 آذار/مارس 1913، حضر 500 مدعو وأكثر من 700 من جنود الخيالة والمدفعية وحشد يزيد عن 3,000 من السكان المحليين حفل التسمية الرسمية لكانبرا.
اعتلت الليدي دينمان المنصة، وهتفت بلكنتها الإنجليزية الأنيقة: "أعلن كانبرا عاصمة لأستراليا".
وهكذا أصبحت كانبرا عاصمة البلاد. لم تتفوق على أهم مدن أستراليا بمساحتها أو ثرواتها، بل بكونها "الملتقى" الذي يجتمع حوله كل الأستراليين.
