"العراق وطني الأم وأستراليا وطني الأب": طبيبة عراقية واجهت الحرب والمنفى واحتمال الإعدام

Dr. Inaam Jajoo

Dr. Inaam Jajoo as a medical student at Baghdad university in 1984 Source: Dr. Inaam Jajoo

احصل على تطبيق SBS Audio

طرق أخرى للاستماع

اضطرّت طبيبة الأسنان المتخصّصة الى ترك الموصل المتألّم وتوضيب حقائب عائلتها الصغيرة التي لم تتّسع للذّكريات، للبحث عن وطنٍ آمن في أستراليا. من العراق إلى تركيا، أثينا فأستراليا، رحلة من الإصرار والبحث عن الاستقرار.


 اختبرت تجربة الحرب في شمال العراق وناضلت هناك كطبيبة مسعفة لكنّ التحديات لم تترك للطبيبة الشابة إلّا خيار الرحيل واللجؤ الإنساني إلى أستراليا.


النقاط الرئيسية

  • تخرجت د. إنعام من كلية طب الأسنان وعملت كطبيبة في القرى والأرياف حتى مطلع التسعينات
  • اضطرت إلى تقديم استقالتها كطبيبة للتمكن من مغادرة العراق إذ كانت هجرة الأطباء آنذاك محظورة
  • قدمت طلب لجوء إنساني إلى أستراليا فتحدّت وناضلت لتعديل شهادتها ومزاولة مهنة الطب

إنّها د. إنعام ججو، طبيبة أسنان ستكشف لنا تفاصيل عشرين عامًا من رحلة الاصرار على النجاح رغم كل الصعاب. تركها العراق دون أية ضمانات فما كان أمامها إلا المغامرة في رحلة نحو المجهول.

منذ الصغر وهي تحلم بأن تصبح طبيبة عامة، وشاءت الظروف بأن تقبل في كلية طب الاسنان بدلًا من الطب العام، عام 1982. حزنت كثيراً لتغيير مجرى حياتها الوظيفي ولكنها ايقنت لاحقًا أن هذا الخيار كان لصالحها بعدما  كانت تصيبها حالات الإغماء المتكرر أثناء مختبر التشريح ووجوب التعامل مع الجثث المشوهة من ساحات المعارك 1984 جراء حرب العراق وايران.
Dr. Inaam Jajoo
Graduating in clinical dentistry from Baghdad University-Iraq in 1987 Source: Dr. Inaam Jajoo
تخرجت عام 1987، وبعد الإقامة الدورية تم توزيع الأطباء الجدد الى مناطق القرى والارياف لخدمة التدرج الطبي وكان نصيبها أن تؤدي رسالتها في منطقة السليمانية على حدود ايران. كما عملت كطبيبة في القرى والأرياف حتى العام 1991 واختبرت تفاصيل الحرب المؤلمة في شمال العراق.
Dr. Inaam Jajoo
At Dokan Dam, Sulaymaniyah northern Iraq in 1989 Source: Dr. Inaam Jajoo
تروي د. إنعام تفاصيل احتجازها أثناء عملها كطبيبة مع الأكراد في المنطقة الشمالية وكانت تبلغ آنذاك من العمر 25 سنة. مع اندلاع الحرب قطعت المعابر بين بغداد والمنطقة الشمالية، حيث فقدت الطبيبة أي اتصال مع عائلتها قائلة:
طلبت إجازة في عملي، فقيل لي دكتورة نحن دخلنا الحرب، فلا إجازات تعطى!
وروت تفاصيل الفترة الأصعب في حياتها المهنية قائلة:
في الأول من آب من العام 1990، دخلنا الحرب مرة ثانية. فكانت كارثة بالنسبة لنا. كنا في حالة رعب، فالعالم يتحضر للهجوم على العراق
سردت د. ججو كيف بدأ الأكراد النزوح من المنطقة الشمالية باتجاه تركيا وإيران. لم تكن تريد المغادرة معهم ولكنها اضطرت لذلك كونها كانت الطبيبة في تلك المنطقة قائلة:

"لم أرد أن أغادر معهم، كنت صغيرة دون خبرة وكان أهل المنطقة يحبونني فقالوا لي إن لم أرحل فسأقتل حتمًا من قبل الجيش". وتابعت قائلة:
غادرت معهم وكانت الطريق مأساة حقيقية، لا طعام ولا مشرب سيرًا على الأقدام وسط الألغام. كانت حالتي النفسية كما الصحية سيئة. كنت أرى الجثث من حولي!
Dr. Inaam Jajoo
Fleeing to Turkey borders in March 1991 Source: Dr. Inaam Jajoo
واجهت ججو صدمات متتالية وأحست كأن نهاية العالم أتت. كانت تبكي بحرقة لمصيرها ولخوفها من عدم تمكنها من رؤية عائلتها مرة ثانية، وكونها كانت الطبيبة الوحيدة التي تتكلم الإنجليزية وسط الأكراد، أُجريت معها ثلاث مقابلات من المحطات العالمية، فقد كانت طبيبة المنفى.

سرعان ما كان قلبها وبجرأة يلح عليها بالعودة إلى أرضها ولو ميتة. قررت العودة الى العراق لتُدفن بين أهلها بدلاً من العراء في البلد المجهول غير مبالية بكل التحذيرات لمنعها من العودة أو بالتعذيب أوالاعدام على يد جهاز المخابرات بتهمة العمالة مع الأكراد قائلة:
قررت الرجوع حتى ولو واجهت الموت. كنت خائفة من الإعدام ولكن على الأقل أدفن في بيت أهلي
رحلت مع مجموعة من الشباب لهم خبرة في المنطقة الجبلية، فبدأت مغامرة أخرى مع تسلّق الجبال والتعرض للموت من الألغام أو من الحيوانات المفترسة.

وصلوا إلى مشارف العمادية بعد خمسة ايام من المشي عبر الجبال وما أن وطئت أقدامهم الشارع حتى دنت منهم سيارة عسكرية سألتهم إن كانوا من العائدين. أجابوا ب "نعم" والتي كانت تعني أن نهايتهم قد اقتربت وهي الإعدام:

"أخذنا الجندي إلى مقر الفرقة وهناك أمر القائد بتجهيز الخبز الساخن لنا. فظننت أن الإعدام سيكون بعد تناول الطعام!

وتابعت قائلة: "كنا مرعوبين لا نعرف ماذا يحصل، تناولنا الطعام وطُلِب منا المغادرة كل الى بيته فلم أصدق".

استأجرت سيارة تاكسي إلى دهوك فالموصل ثم الى بغداد لتصل إلى بيت أهلها الذين لم يستطيعوا التعرف عليها لتغيّر ملامحها.
Dr. Inaam Jajoo
Returning home to Baghdad on the 30th of April 1991 Source: Dr. Inaam Jajoo
قرار الرحيل

تحديات تلو الأخرى دفعت بالطبيبة الشابة التي تزوجت وأصبحت أمّا، للبحث عن استقرار في أية غربة، ما اضطرها لتقديم استقالتها كطبيبة للتمكن من مغادرة البلاد إذ كانت هجرة الأطباء محظورة آنذاك.

لم يكن قرار المغادرة أمرًا سهلًا إذ كانت خطوة نحو المجهول. اضطرت العائلة لمغادرة الموصل إلى تركيا ومن ثم بطريقة غير شرعية إلى أثينا، ومن هناك قدّمت طلب لجوء إنساني إلى أستراليا.
Dr. Inaam Jajoo
Dr. Inaam Jajoo with her husband and children in Athens Source: Dr. Inaam Jajoo
كان على د. إنعام أن تتوقع الأسوأ أي رفض طلب اللجوء، ففكرت بالعمل مع "أطباء بلا حدود" في أثينا، لكن الحياة قابلت إصرارها بقرار الموافقة بعد ثمانية أشهر.

بداية من تحت الصفر

وصلت إنعام ججو مع زوجها إلى أستراليا في مطلع العام 2000. اختارت من اللحظة الأولى أن تنفتح على هذه الأرض الخلابة وتختارها وطنًا:

"من اللحظة الأولى لنزولنا من الطائرة، نظرت إلى السماء وحمدت الله وشكرته. لم تعد تهمني التضحيات التي قدمتها والخسائر".

من اللحظة الأولى، تركت الماضي خلفها واختارت أن تتخذ أستراليا وطنًا لها رغم التحديات:
وصلنا إلى أستراليا مفلسين ومديونين بـ 20 ألف دولار. السلطات استقبلتنا خير استقبال وأمنت المسكن والنفقات
تضحيّات كبيرة مثمرة

كانت البداية في أستراليا من أسفل السلم إذ قالت د. إنعام إن التحديات الأكبر كانت في إتمام المعادلات المطلوبة لمتابعة التخصص ومزاولة مهنة الطب التي أخذت منها سنين عديدة من  الدراسة في كلية الطب في جامعة بغداد.

كانت التكاليف باهظة للعائلة المهاجرة ولكن كيف للطبيبة الشابة الزوجة والأم أن تستسلم؟ ثابرت رغم المتطلبات الجمة التي تحتاجها ممارسة الطب في أستراليا من معادلة الشهادات، إضافة الى متطلبات أساسية مثل العودة إلى مقاعد الدراسة، واختبارات عديدة للحصول على تأشيرة العمل الخاصة في هذه المهنة، فأردفت قائلة:
تقشفت كثيرًا لتعديل شهادتي الطبية التي رفضت ثلاث مرات. زوجي كان يعمل بدوام جزئي ليساندني في رعاية الأولاد بينما كنت أتابع دراستي
وأضافت قائلة: لم يكن هناك مشكلة تعيقني. كان لدي هدف طالما الاستقرار المادي والنفسي متوفران".

وأخيراً كانت نتيجة الكفاح بالنجاح والحصول على التسجيل في مجلس طب الأسنان نهاية عام 2003.

متى أصبحت أستراليا وطنًا؟

لم يكن الإنسلاخ عن العراق سهلًا وكذلك الانخراط في المجتمع الأسترالي، ولكن رغم التحدّيات الكثيرة، أكدت د. إنعام أنها من اللحظة الأولى شعرت أن أستراليا وطن لها ولعائلتها:
أستراليا هي وطني، وطني، وطني بكل فخر! يترك الإنسان الوطن الأم ليس بسبب الأرض بل الناس. العراق هي وطني الأم وأستراليا هي وطني الأب.
اليوم وبعد 21 سنة، تنظر د. إنعام إلى الوراء، وتشعر بالرضا والفخر لأنّ تضحياتها أثمرت رغم المنافسة الشديدة والرفض.

وتختم قصتها داعية المهاجرين إلى تحقيق الانجازات أينما كانوا:

"لم أنس وطني العراق. اليوم لدي مركز طبي وبكل فخر أطلقت عليه اسم دجلة تيمنًا بالعراق"

للاستماع قصة هجرة الدكتورة إنعام بالكامل، اضغط على الملف الصوتي أعلاه.

شارك